. سعيد الكحل.
نظمت جماعة العدل والإحسان يوم السبت 5 نونبر2022، ندوة فكرية سياسية بمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيسها تحت عنوان “جماعة العدل والإحسان بعيون الآخرين”. وما يهم الندوة، ليس ما طرحه المتدخلون من وجهات نظر التي هي في جوهرها تخدم تكتيك الجماعة من حيث كونها تسوّق ذاتها كتنظيم “منفتح” على الاختلاف و”مرحّب” بالنقد، إلا الذي ينصب على الأسس الفكرية والعقدية لمشروع الجماعة السياسي ونظام الحكم الذي تسعى إليه ومصير المعارضين له. ذلك أن الجماعة تؤثث ندواتها بمن يغازلها ويداري عن الجرائم التي ارتكبها أعضاء منها في حق الطلبة، والجرائم التي أعدّتها لمعارضيها يوم تقيم نظامها السياسي. فما ينبغي التنبيه إليه، من خلال هذه الندوة، والذي لم يثره المتدخلون لعدم إلمامهم به وبخطورته على مستقبل الشعب هو الطابع الاستبدادي الموغل في الوحشية لنظام الحكم الذي تريد الجماعة إقامته. وقد حاول عبد الواحد المتوكل، رئيس الدائرة السياسية للعدل والإحسان وعضو أمانتها العامة المداراة عن حقيقة الجماعة وتقديمها كتنظيم يقبل بالاختلاف والنقد كالتالي: “وإن كنا نستند إلى مصدر رباني نعتز به ولا نخفيه، لكن في مجال الاجتهاد الواسع، أو ما يسميه العلماء بمنطقة العفو فنحن كغيرنا من البشر، يعترينا ما يعتري عامة البشر من السهو والمسيان والخط والصواب..لا يزعجنا أن يقال إن رؤيتنا لإصلاح الدولة والمجتمع تستند إلى الإسلام والمرجعية الإسلامية، ولكن يزعجنا أن يقال إننا نحتكر فهم الإسلام، وإننا نريد أن فرض على الآخرين فهمنا للإسلام.. العقائد لا تفرض.. وما يمكنش لنا نتصرفو خلافا للشرع وللعقل والمنطق . ولكن يزعجنا أن يقال إننا نريد أن نقيم دولة ثيوقراطية.. ونريد أن نذبح الديمقراطية من الوريد إلى الوريد بمجرد ما نقضي منها وطرنا لا. هذا غير ممكن واقعيا وعمليا ومصلحيا.. ماشي في مصلحتنا نهرسو السلوم، بغينا نطلعو في أمان الله ونزلو في أمان الله . نحن في تناقض حاد مع الإكراه ومع الاستبداد.. الشرعية لا تحصل ولا تكتمل إلا بالاختيار الحر وبرضا الناس”.
طبعا ليس من مصلحة المتوكل وغيره من قيادات الجماعة الكشف عن قناعاتها كما حددها مرشدها الراحل عبد السلام ياسين؛ لأن من شأن هذا الكشف أن ينفّر من حولهم من يطوفون في فلكهم لحساباتهم السياسوية الضيقة. فما تجاهله المتدخلون أو جهلوه هو موقف الجماعة من الديمقراطية كمنظومة من القيم والحقوق لا يمكن تجزيئها. ومن يعتقد أن الجماعة راجعَتْ المبادئ والأسس التي وضعها مرشدها فما عليه سوى الاستماع للكلمة الافتتاحية لفعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس الجماعة التي ألقاها أمينها العام، محمد عبادي، ليدرك موقفها الحقيقي والثابت من الديمقراطية ومن النظام السياسي المدني والديمقراطي. ومما قاله عبادي “فإذا تحررت الأقطار واستعادت قوتَها سهُل بعد ذلك مد جسور التنسيق والتعاون بينها استشرافا لتوحيد الأمة تحت حكم راشد قائم على العدل والشورى. وحدة يستوجبها الشرع وتستوجبها المصلحة والمسؤولية.. وضْعُنا الحالي لا يؤهلنا لأداء هذه المسؤولية”. إذن، أفق الجماعة السياسي هو إقامة دولة توحّد الشعوبَ والدولَ القطرية في “أمة” ونظام حكم قائم على “الشورى”، أي دولة “الخلافة” بكل ما فيها من استبداد ديني ومصادرة للحقوق. فقيادة الجماعة لازالت وفيّة ومتمسكة بما سطّره المرشد من تعاليم وعقائد وبيّنه من معالم للمشروع السياسي لها. لهذا لا ينبغي تصديق ما يقوله زعماء الجماعة في الندوات والحوارات الإعلامية، لأنهم يخفون حقيقتها ويدارون عن موقفها من الاختلاف والديمقراطية والقوانين المدنية والحريات الفردية والعامة. إن نظام الحكم الذي تسعى الجماعة لإقامته هو نقيض للنظام الديمقراطي الذي يضمن الحقوق ويسمح بالاختلاف والنقد والمعارضة. نظام حدده المرشد كالتالي (لا يُصلح الناس فوضَى، ولا يستقيم أمر المسلمين بلا نظام حكم. ولا يخدم أهداف الإسلام الجماعية والفردية نظام لا يخضع للإسلام ولا تكون طاعتُه من طاعة الله ورسوله) (ص 68 العدل). واضح أن نظام الجماعة يستوجب الطاعة التامة للحاكم، وكل معارضة أو انتقاد له هما عصيان وكفر، لأن طاعة الحاكم في دولة الجماعة من طاعة الله ورسوله. وليس لأي كان أن يصير حاكما، بل تشترط الجماعة في الحاكم أن يكون “إماما ربانيا” متخرّجا من مدرستها ومتدرّجا في مراتبها حتى يصل إلى مقام “الإمام”. فلا منافسة في انتخاب الحاكم ولا مجال للمعارضة السياسية أو التداول على السلطة وفق دستور الجماعة “المنهاج النبوي”( ما يسمى بلسان العصر قيادة جماعية لا مكان له في الإسلام ، ولا معنى له في علم السياسة وممارسة السلطان. فالأمير هو صاحب الأمر والنهي في كل صغيرة وكبيرة) (ص66 المنهاج.). إن الجماعة لا تؤمن بالمساواة بين المواطنين في الحقوق لأن عقائدها تعتبر (القانون المسوِّي تسوية ديمقراطية في الحقوق والواجبات لا يمكن أن يكون إلا لاييكيا، بمعنى لادينيا) (ص 113 الشورى والديمقراطية). فلا مجال للمطالبة أو الحديث عن حقوق الإنسان في ظل نظام الحكم الذي تخطط له الجماعة، لكون تلك الحقوق (وضعها وفرضها وفكَّرها لاييكيون أقحاح، فإن المتعارف عليه في القانون الدولي أن الإنسان كائن حر من كل فكرة أو دين أو مبدإٍ لا يتفق مع النظرة اللاييكية الدوابية للإنسان)(ص 123 الشورى.). إن هذا الرفض لحقوق الإنسان في بُعدها العالمي يشكل أحد المعالم البارزة للمشروع السياسي للجماعة؛ الأمر الذي يضع قيادتها في تناقض بين ما تؤمن به، أي الرفض المطلق لمنظومة حقوق الإنسان، وبين ما تدّعيه من انفتاح على الاختلاف وقبولها بالديمقراطية.
ومما يسفّه مزاعم القيادة وادعائها احترام حقوق الإنسان، أن نظام الحكم الذي تخطط الجماعة لإقامته لا مجال فيه إطلاقا لحرية الاعتقاد، بتوجيه وتنصيص من المرشد (وما الدين قضية شخصية يتسامح بصددها المسلم مع الكافر، والتائب مع المرتد) (ص 141 الشورى). وهذا يتناقض مع ما قاله المتوكل خلال الندوة. بل إن التحالف الذي تريد الجماعة بناءه مع باقي التنظيمات السياسية لا تسمح فيه بالاختلاف، وإنما تريده بشروطها ( دعوتنا مؤَكَّدة إلى ميثاق إسلامي يستظل بحقه كل التائبين من هذه الأحزاب مهما كان بالأمس اقترافها ما لم تكن رائدة الفسوق والعصيان والكذب على الله وعلى الناس )(ص 571 العدل ). للأسف لم يتصدّ أي من المشاركين في الندوة لعبد الواحد المتوكل ويذكّره بما خطه مرشد الجماعة من أسس لنظام الحكم والقوانين والعقوبات المقررة في حق العلمانيين من يساريين واشتراكيين الذين هم في حُكم الجماعة “مرتدين” ينتظرهم، حتما، حُكْم الردة (فالردة لها أحكامها في الشريعة. تُعِدُّ الدول بنودا في دساتيرها وقوانينها لتعاقب بأقسى العقوبات من تثبت عليه الخيانة العظمى. ويَعُدُّ الإسلام أكبر الخيانات أن يرتد المسلم والمسلمة بعد إسلام.. فمتى نقَض المرتد إسلامه فقد نقض ولاءَه للأمة) (ص 142 الشورى.). ففي الوقت الذي يناضل اليساريون والحقوقيون والحداثيون من أجل ضمان حرية الاعتقاد ودسترتها وإلغاء تجريم الإفطار في رمضان، وإلغاء عقوبة الإعدام، تسير الجماعة عكس الاتجاه بإعداد عقوبات أشد همجية ووحشية في حق من تحكم عليهم “بالردة”، أي تنفيذ حكم الشريعة الذي هو “القتل” حسب التراث الفقهي. ففي نظام الجماعة لن يسمح بالإنتاجات الأدبية والإبداعات الفنية التي ترى فيها الجماعة ما يمكن تأويله بمخالفة الإسلام (أما والمجاهرة بالإلحاد، والمطالبة بالحرية الفسوقية، والحط من الإسلام، باتت من النثر الفني في صحف الفاسقين ، ومن الكلام المتداول في مجالس الملحدين ، فمن الغفلة والغباء أن نسكت حذرا من الوقوع في إساءة الظن بالمسلمين )(ص 149 الشورى). لم يُخبر المتوكل أن جماعته، حين تقيم نظامها السياسي وتسيطر على السلطة، فإن أولى العقوبات التي ستتخذها في حق عموم العلمانيين حددتها توجيهات أبو الأعلى المودودي التي استدل بها مرشد الجماعة، وهي كالتالي (وبالجملة، فإن كل من أُعِدَّ لإدارة الدولة اللادينية ورُبِّيَ تربية خلقية وفكرية ملائمة لطبيعتها، لا يصلح لشيء من أمر الدولة الإسلامية. فإنها ( أي الدولة الإسلامية ) تتطلب وتقتضي أن يكون كل أجزاء حياتها الاجتماعية ، وجميع مقومات بنيتها الإدارية من الرعية والمنتخبين والنواب والموظفين والقضاة والحكام وقواد العساكر والوزراء والسفراء ونظار مختلف الدوائر والمصالح ، من الطراز الخاص والمنهاج الفذ المبتكر ). إذن مصير العلمانيين واليساريين والاشتراكيين، في المرحلة الأولى من قيام “دولة الخلافة” ونظام الجماعة، هو الطرد في الوظيفة العمومية بكل مراتبها ودرجاتها، بحجة أن (أبناء الدنيا لا يصلحون لنَظم أمر المسلمين في غد الخلافة الثانية )( ص 120 العدل) .لكن الأخطر هو عندما تثبت أركان دول الجماعة ويستقر الحكم بيد “إمامها”، حينها ستقطع أيدي وأرجل اليساريين والاشتراكيين والعلمانيين من خلاف ثم تفقأ عيونهم ويتم رميهم في الصحراء حتى يموتوا عطشا. وقد شرعن مرشد الجماعة هذه العقوبة الهمجية كالتالي (كانت شدة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعداء الله بعد أن ثبتت أركان دولته في المدينة شدة بالغة. فقد غدر ناسٌ من عُكْل بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وعطشهم حتى ماتوا عطشا) (ص149).
هذا هو نظام الحكم الذي تسعى جماعة العدل والإحسان إلى إقامته وتطبيق عقوباته الوحشية على المخالفين لها من اليساريين والعلمانيين بمن فيهم الذين يتحالفون معها اليوم ويؤثثون لها موائدها الفكرية وندواتها السياسية وينشطون لها برامجها الإعلامية. لم يعتبر هؤلاء بما فعله الخميني بخصومه اليساريين الذين تحالفوا معه وناصروا “ثورته” فأثخن فيهم تعذيبا وإعداما. بل لم يتساءل هؤلاء عن سبب رفض باقي تنظيمات الإسلام السياسي بناء تحالف سياسي مع الجماعة رغم كونهم شركاء في المرجعية الإيديولوجية. إن الجماعة، مثلها مثل باقي تنظيمات الإسلام السياسي، ترفض حقوق الإنسان مبدئيا، لكنها تحتمي بها عند تطبيق القانون على أعضائها. إذ لم يحدث أن أقرت الجماعة بكون أحد أعضائها ارتكب جنحة أو جناية حتى وإن كانت كل الأدلة تدينه. فحتى حين قَتل طلبة أعضاء في الجماعة طالبا يساريا هو المعطي بومليل، في أكتوبر 1991، سارعت الجماعةُ إلى اتهام الدولة باستهداف نشطائها بمجرد اعتقال وتقديم المتورطين في ارتكاب الجريمة إلى المحاكمة؛ بحيث خرجت قيادة الجماعة ببيانات التنديد معتبرة إياهم “معتقلين سياسيين” على الرغم من كون أبرز الجمعيات الحقوقية رفضت تصنيفهم كذلك. فقد صرحت، خديجة رياضي، رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حينها، لصحيفة «الشرق الأوسط» رفض جمعيتها الاعتراف بمعتقلي «العدل والإحسان» كمعتقلين سياسيين، لكونهم قاموا بأفعال تستحق العقاب ولا تدخل في إطار حرية التعبير وحرية التنظيم وغيرها. رفض مماثل قوبل به طلب معتقلي الجماعة هؤلاء إلى هيئة الإنصاف والمصالحة التي لم تدرجهم ضمن لائحة المستفيدين من تعويضات جبر الضرر. ذات سيناريو اتهام الدولة “بفبركة الملفات” و”الانتقام” من قيادات الجماعة و”التضييق” على أنشطتها، تكرره قيادة الجماعة إثر اعتقال نقيبها بمكناس، محمد أعراب باعسو، ومتابعته من أجل “جناية الاتجار في البشر وذلك باستدراج أشخاص بواسطة الاحتيال والخدعة ، وإساءة استعمال الوظيفة ، واستغلال حالة الضعف والحاجة والهشاشة بغرض الاستغلال الجنسي ، وجناية هتك عرض أنثى باستعمال العنف”، بالإضافة إلى جنح “الإخلال العلني بالحياء، وممارسة الضغوط والإكراه، واستدراج أشخاص لممارسة الدعارة”. فرغم وجود ضحايا، سواء الطالب القتيل بومليل، أو المغتَصَبات وضحايا الاحتيال والخدعة، ظل خطاب جماعة العدل والإحسان واحدا، ويتمثل في تنزيه المتورطين في الأفعال الجرمية، واتهام الدولة، في المقابل، باستهداف الجماعة. ففي نونبر 2009، حين تم الإفراج عن معتقلي الجماعة المتورطين بقتل بومليل، صرح، حسن بناجح، عضو الأمانة العامة للجماعة بأن “التهم المنسوبة إلى المعتقلين ملفقة”، وأنهم “معتقلون سياسيون”. وحين اعتقال نقيب الجماعة بمكناس، وجه ذات الشخص نفس التهمة للدولة وأجهزتها الأمنية بكونها اعتقلت النقيب للتضييق على الجماعة، وأن” الملف ملف سياسي، صيغ في أقبية الأجهزة ضد رجل معروف عند الجميع باستقامته وأخلاقه، وتُستهدف من ورائه جماعة العدل والإحسان بسبب مواقفها المناهضة للاستبداد والفساد، خاصة في سياق تخليدها للذكرى الأربعين لانطلاق مسيرتها”. وبهذا يتأكد أن الجماعة تستغل سياسيا اعتقال أعضاء منها بتهم لا تتعلق بحرية الرأي، وإنما بالقتل والفساد والاتجار بالبشر؛ وهي تهم لا يمكن إدراجها ضمن حرية التعبير أو حرية الانتماء السياسي. والقول بأن الدولة اعتقلت باعسو أو الطلبة المتورطين في قتل بومليل، لكونهم أعضاء بالجماعة بغاية التضييق عليها، قول لا يقبله المنطق السليم، لأن اعتقال نقيب أو طلبة بالجماعة لا يمكن أن يُحدث الأثر المباشر على هياكلها مثلما سيحدثه اعتقال أعضاء أمانتها العامة أو مجلس الإرشاد أو الدائرة السياسية لتنظيم غير مرخّص له ومناوئ للنظام وللدولة المدنية. وليس خافيا على الدولة وأجهزتها الأمنية والقضائية أن أدبيات الجماعة وبياناتها مليئة بالتحريض على النظام وتكفير رموز الدولة ومؤسساتها والإعداد التنظيمي والإيديولوجي للانقضاض على السلطة. فعنوان كتاب المنهاج الذي يتضمن مخطط الجماعة الانقلابي (تربية، تنظيما، زحفا)، يكفي وحده لمحاكمة كل قيادات الجماعة بجميع التهم الثقيلة التي تتعلق بالتآمر على النظام والتخطيط للانقلاب وزعزعة الأمن والاستقرار. لكن الدولة لم تفعل، بل تترك الجماعة تمارس أنشطتها بكل أريحية ( نشر كتب المرشد وبيعها في المكتبات العمومية، عقد الندوات، إصدار البيانات الحادة ضد النظام والدولة، تنظيم الاحتجاجات في الأمان العمومية..).
واضح إذن، أن الجماعة وكما تتاجر بالدين وبالأخلاق حيث تقدم نفسها وأعضاءها حملة رسالة الهداية إلى البشرية جمعاء وساعية إلى تهذيب أخلاق العباد ونشر التآلف، بينما كل أدبياتها تنذر كل المعارضين لمشروعها السياسي ونظام حكمها الموغل في الاستبداد بأبشع أنواع العقوبات فضلا عن تورط أعضاء منها في ملفات أخلاقية وهم الذين يدعون الورع والتقوى؛ تتاجر كذلك بحقوق الإنسان لتجعل منها مطية لتحقيق مآربها السياسوية.